أمر الله تعالى المسلمين بتدبر القرآن فقال جل من قائل: (أفلا يتدبرون القرآن) واستجاب لذلك جمع غفير من السلف الصالح فتدبروا القرآن وتفكروا فيه، وأخرجوا منه أحكاماً تفيد دنياهم وأخراهم.
وعملوا به وقدموه على كل شيء، وكانوا يستخرجون منه الحكمة كما يستخرجون الأحكام، وكان الصحابة إذا تعلموا عشر آيات لم يتجاوزوهن إلى العشر الآخر حتى يعلموا ما فيهن، ويعملوا بما فيهن، فتعلموا العلم والعمل.
وهذا التابعي الكبير أبوالعالية رُفيع بن مِهران كان يقول: "إن الله قضى على نفسه أن من آمن به هداه، وتصديق ذلك في كتاب الله: (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) ومن توكل على الله كفاه، وتصديق ذلك في كتاب الله: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه).
ومن أقرضه جازاه، وتصديق ذلك في كتاب الله: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضعفه له أضعافاً كثيرة) ومن دعاه أجابه، وتصديق ذلك في كتاب الله: (وإذا سألك عبادى عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) "فكلامه هذا يدل على تدبر طويل.
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "يا ابن آدم والله إن قرأت القرآن ثم آمنت به ليطولن في الدنيا حزنك، وليشتدن في الدنيا خوفك، وليكثرن في الدنيا بكاؤك" وهذا الأمر لا يأتي إلا من تدبر وتفكر.
وهذا الزاهد المتأله أبوالعباس محمد بن سهل بن عطاء البغدادي رحمه الله كان له في كل يوم ختمة، وفي رمضان تسعون ختمة، لكنه بقي في ختمة مفردة واحدة بضع عشرة سنة يتفهم ويتدبر.
هكذا كان حال السلف، ولن يستقيم لنا حالنا اليوم إذا قنعنا فقط بالتلاوة دون الفهم والتدبر، وإنك لتجد رجالاً ونساءً يكبون على القرآن تلاوة ويتنافسون في ذلك وهو أمر حسن لكن حالهم أبعد ما تكون عن القرآن، وكأنهم اكتفوا من القرآن بالتلاوة دون العمل به، وهذا على الحقيقة عامل كبير من عوامل تخلف المسلمين وضعفهم وذلهم وهوانهم.
وقد كان للسلف رضي الله عنهم كلام حسن في تدبر القرآن العظيم وتفهمه وأثره على النفوس، فمن ذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول: "ينبغي لقارئ القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون، ونهاره إذا الناس يفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون".
وكلامه هذا منصب على من قرأ القرآن فتدبره وفهمه واتعظ به وعمل بأوامره واجتنب نواهيه.
وقال محمد بن كعب القرطبي: "كنا نعرف قارئ القرآن بصفرة لونه"، يشير إلى سهره وطول تهجده، وهذا منبعث من تدبره وتفهمه.
وقال وهيب بن الورد: قيل لرجل ألا تنام؟ قال: إن عجائب القرآن أطرن نومي.
وقال أحمد ابن أبي الحواري: "إني لأقرأ القرآن وأنظر في آية فيحير عقلي بها، وأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا وهم يتلون كتاب الله، أما إنهم لو فهموا ما يتلون وعرفوا حقه وتلذذوا به واستحلوا المناجاة به لذهب عنهم النوم فرحاً بما قد رُزقوا ".
قال الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى –مذكراً بأهمية تدبر القرآن في رمضان خاصة-: "هذا - عباد الله- شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وفي بقيته للعابدين مستمتع، وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم ويسمع.
وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً يتصدع، ومع هذا فلا قلب يخشع، ولا عين تدمع، ولا صيام يصان عن الحرام فينفع، إلى أن قال: كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة.
وكم يتوالى علينا شهر رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة، لا الشاب منا ينتهي عن الصبوة، ولا الشيخ ينزجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، وإذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم جلوة"، أي زال عنها الران والصدأ.
وللإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كلام جليل في هذه المسألة المهمة إذ يقول:
"الطريق المختصرة القريبة السهلة الموصلة إلى الرفيق الأعلى التي لا يلحق سالكها خوف ولا عطب، ولا فيها آفة من آفات سائر الطرق البته، وعليه من الله حارس وحافظ يحرسه ويحفظه ويحميه ويدفع عنه كل أذى هي أن تنقل قلبك من وطن الدنيا إلى وطن الآخرة.
ثم وأنت بهذا الموطن لا تجعل له التفافاً إلا إلى معاني القرآن واستجلائها وتدبرها، وفهم ما يراد به وما نزل لأجله، واخذ نصيبك وحظك من كل آية من آياته وتنزيلها على أدواء قلبك، ولا يعرف قدر هذه الطريقة إلا من عرف طرق الناس وغوائلها وقطاعها، والله المستعان". انتهى كلامه رحمه الله وهذا كلام نفيس.
وهذا أحمد بن إدريس المغربي الإدريسي المتوفى سنة 1253 كان قد وعى أهمية التدبر والتفكر في كتاب الله فأقبل بالكلية عليه، وأطال التفكر في استجلاب أسرار معانيه، ولقد ذكر أنه مكث عدة سنين لا شغل له إلا تلاوة كتاب الله تعالى والتعرض لنفحات أسرار علومه، ولطائفه ورقائقه وفهومه حتى فتح الله عليه فتحاً عظيماً.
وهكذا ينبغي لكل قارئ لكتاب الله أن يتدبر ويتفهم المعاني، ويرجع إلى كتب التفسير، وليس هنالك زمان أشرف من شهر رمضان شهر القرآن الذي يتفرغ فيه أكثر الناس لقراءة القرآن والاعتناء به، فيا حبذا لو جمع إلى التلاوة التفسير، وانظم إلى ثواب القراءة التدبر والتفكير، والله تعالى أعلم.
وما أحسن كلام الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى إذ يقول: "وجدنا الأمة الإسلامية عندما هجرت كتابها –أو على ألأقل أخذت تقرأه على أنه تراتيل دينية- فإنها فقدت صلتها بالكون، وكانت النتيجة أن الذين درسوا الكون خدموا به الكفر، واستطاعوا أن يسخروه لأنفسهم ومبادئهم وإلحادهم وتثليثهم.
أما نحن مع أن كتابنا كتاب تجاوب مع الكون بحيث لم نر كتاباً سماوياً أو مقدساً –كما يقولون- نوّه بعظمة الله في كونه أو بعظمة الكون لأن الله هو الخالق كالقرآن الكريم، ما الذي صرفنا عن هذا كله؟ صرفنا عنه أننا ما أحسنّا التلقي والتعامل مع القرآن أبداً، بل كنا نقرأ وكنا نعتبر الخطأ الكبير فقط ألاّ يمد القارئ المد اللازم خمس أو ست حركات، أو لا يغنّ الغنة، أو لا يخفي الإخفاء، وكل ذلك يمكن أن يكون وسيلة لحماية الأداء القرآني ليكون محلاً للنظر والتدبر.
أما وعي المعاني وإدراك الأحكام والتحقق بالعاطفة المناسبة من خلال تشرب معاني القرآن فقد اختفى من نفوسنا، هذا شيء لا بد أن نبدأ به كل كلام عن القرآن الكريم وإلا فنحن معزولون عن ديننا وعن مصدره، القرآن كتاب يصنع النفوس ويصنع الأمم ويبني الحضارة، هذه قدرته، هذه طاقته، فأما أن يفتح المصباح فلا يرى أحد النور لأن الأبصار مغلقة فالعيب عيب الأبصار التي أبت أن تنتفع بالنور والله تعالى يقول: (قد جاءكم من الله نور وكتب مبين * يهدى به الله من اتبع رضونه سبل السلم) نحن ما اتبعنا رضوان الله.
ولا سبل السلام، ولا استطعنا أن نقدم سلاماً للعالم، ولا استطعنا أن نقدم هِدَايات القرآن للقارات الخمس، هناك في عصرنا خمسة مليارات من البشر محجوبة عن أضواء القرآن، وفاقد الشيء لا يعطيه، أرى أنه لا بد أن نعود لدراسة القرآن، فهذا قرآن يكلم الرجال ليعيد صياغتهم، ويكلم الأحياء ليحقق استجابتهم، ويكلم العقلاء ليوجه وعيهم فيجعل منهم أمة تحمل رسالتها.. . " انتهى كلامه رحمه الله، وهو كما ترى ليس عليه مزيد، والله الموفق.
ويعرض هاهنا سؤالاً ألا وهو: من الذي يتدبر القرآن ويستفيد من تدبره؟ لا شك أن متدبري القرآن قلة، وهم في الناس كالشامة، وأكثر الناس بعدهم يقرأون القرآن بلا تدبر ولا فهم، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "اعلم أن الرجل قد يكون له قلب وقاد، مليء باستخراج العبر واستنباط الحكم، فهذا قلبه يوقعه على التذكر والاعتبار.
فإذا سمع الآيات كانت له نوراً على نور، وهؤلاء أكمل خلق الله تعالى وأعظمهم إيماناً وبصيرة حتى كأن الذي أخبرهم به الرسول صلى الله عليهم مشاهد لهم.. فصاحب هذا القلب إذا سمع الآيات وفي قلبه نور من البصيرة إزداد بها نوراً على نوره، فإن لم يكن للعبد مثل هذا القلب فألقى السمع وشهد قلبه ولم يَغب حصل له التذكر أيضاً (فإن لم يصبها وابل فطل) ".
وقال ابن القيم أيضاً:
"أما التأمل في القرآن فهو تحديق نظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهو المقصود بإنزاله لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر، قال تعالى: (كتب أنزلنه إليك مبرك ليدبروا ءايته وليتذكر أولو الألبب) وقال تعالى: (أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالها) وقال تعالى: (أفلم يدبروا القول) وقال الحسن: نزل القرآن ليتدبر ويعمل به فاتخذوا تلاوته عملاً".
وقال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى مبيناً أهمية تدبر القرآن: "كثر الحث في كتاب الله على التدبر والاعتبار، ولا يخفى أن الفكر هو مفتاح الأنوار، ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم ومصيدة المعارف والفهوم، وأكثر الناس قد عرفوا فضله ورتبته لكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره"
وذكر ابن القيم تعريفاً للتدبر يصلح أن يكون طريقاً للوصول إلى التدبر والتفهم، فقال: "أما تدبر القرآن فهو تحديق نظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهو المقصود بإنزاله لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر".
والترتيل والترسل طريق إلى التفهم والتدبر، فعن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً –أي متمهلاً- إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ"
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب".
وقال محمد بن كعب القرظي: "لأن اقرأ في ليلتي حتى أصبح بإذا زلزلت والقارعة، لا أزيد عليهما، وأتردد فيهما وأتفكر أحب إلي من أن أهذَّ –أي أقرأ بسرعة- القرآن ليلتي هَذَّا أو قال أنثره نثراً".
فهذه القراءة سبيل موصل إلى التدبر والفهم ثم العمل، والله الموفق.
الكاتب: الدكتور محمد موسى الشريف
المصدر: موقع التاريخ